الأدب الأندلسي : بضاعتنا ردت إلينا بقلمي:العربي لعرج المغرب
ظل الشعر وسيظل ديوان العرب، يؤرخ لماضيها ،وحاضرها ،قوة الدولة ،عنفوانها و ضعفها .كما يقول العلامة إبن خلدون، وسخرت لذلك مجموعة من الأقلام الذين تحملوا وكانوا شهادة حية وصادقة عن ذلك العصر، بعيدا عن المطبلين والعراضين.
فللشاعر والكاتب مسؤولية جسيمة، تقاس بمدى الدفاع عن كرامة حدوده، ولا نقول كما قال الشاعر:
وإني لأمر على اللئيم يسبني : ولما رأيته قلت لايعييني.
فالأندلس نسخة مصغرة عن بلاد الشام، نافذة مطلة عليه، بذلك الجمال الآسر الأخاذ، فلقد رحل الإنسان العربي، أو هاجر، أو نفي، لكل أسبابه، وحمل معه مخزونه الثقافي، وحولها من أرض جدباء قاحلة سواد، إلى بساتين ودية ونخيل لأبن زيدون وولادة.
غير أن ذلك لا يمكن أن يتبدى كالشجرة التي تخفي الغابة، فوراء الأكمة ما وراءها.فلقد حمل العرب غيرتهم، وقساوتهم وفتنهم التي تجاوزت المحيطات، ولعل من الأمانة العلمية أن نتقصى المراحل الثلاث أولها بآخرها مع القليل من الذاتية التي تلازمني كظلي.
تعد خطبة طارق بن زياد أحد قواد موسى بن نصير الفاتح الأعظم لبلاد الأندلس 92هجرية،بالغة الأثر لما وصلت إليه بلاغة الشعر والأدب من المجازات، الطباق، الثورية، الإستعارة ،والتشبيه وما تدل عليه من حمولة ومعان رمزية استغلت في النفخ العسكري، والسياسي، بإذكاء نار الحماسة بين صفوف الجنود والعمال والأدباء والفلاحين الزراعيين، الذين تحمسوا لبناء إمارة جديدة في الأندلس.
ويعتبر رد طارق بن زياد حكيما وموجزا على ملك إسبانيا الفونس يجمع بين متانة اللغة وصلابة الشخصية "الجواب ما ترى لا ما تسمع يا إل فونس " لم يترك له خيالا آخر ،ولا اختيار سوى الاستسلام لرغبة الفاتحين فكانت بداية لإظهار قوة العرب وفطنتهم ،وامتدادا لحروب بني أمية في الشرق والغرب.في وقت كانت فيه إسبانيا تعيش برودة حقيقية. فاخضرت البساتين وتفتقت عيون الأدب والشعر، في عهد عبد الرحمن الناصر وابنه محمد، وبلغ من المتانة بحيث أصبحت الأندلس محجا وقبلة لكبار الأدباء والشعراء، الذين تغنوا بجمال الطبيعة وسحرها، ولان الدم العربي وتحول من أسد إلى قطة وديعة تطرب بموشحات إسحاق الموصلي وتلميذه زرياب. وتصاعدت أطماع الروم الذين ظلوا خافضين أجنحتهم يتربصون الفرصة لاسترجاع مجدهم المصون.
هكذا شهد المجد الأندلسي تألق كتاب وشعراء، تخطت شهرتهم البلاد نحو الأمصار الأخرى.
إن أحمد بن عبد ربه صاحب العقد الفريد القرطبي 246\328هجرية يعتبر في نطاق الخبر الذي أورده المؤرخ إبن بسام واحد من رواد الإبداع والتجديد في الشعر الأندلسي، ويقول عنه إبن سعيد "إنه إمام أهل المئة الرابعة وفرسان شعرائها في المغرب كله.
إنه يمدح المنذر بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط:
بالمنذر بن محمد شرفت بلاد الأندلس
فالطير فيها ساكن والوحش فيها قد أنس .
الجسم في بلد والروح في بلد
يا وحشة الروح يا غربة الجسد
إن تبك عيناك لي يا من كلفت به
من رحمة فهما سهمان في كبدي.
قلت إن الشاعر تتوفر فيه صفة النبوغ، والتنوع الفكري،فهذا معطى فلسفي تنائية الجسم والروح وردت في شعر إبن عبد ربه. وللمتنبي رأي في شعره، وسماه بمليح الأندلس.
وقال في الزهد:
ألا إنما الدنيا غدارة أيكة/إذا اخضر منها جانب جف جانب.
صاحب الأمالي لأبي علي القالي 288\356 هجرية
قال المشارقة في إبداعه بضاعتنا ردت إلينا لما وصل إليهم مجلده الذهبي الغزير، والوفير والذي أدرج باسم الأمالي لأبي علي القالي سطع نجمه، لما فيه من الحلي الأدبية والجواهر الفكرية من الأخبار والحكم، والعلامات الفكرية والرقي الأدبي، فوصل شأنه إلى مصر والنواحي من الأمصار المشرقية وردوا عليه بهذا الجواب الشافي المتعدد الأوجه. وواحدة أنه يدل على ما وصل إليه الأدب الأندلسي، من رقي وازدهار بنبوغ العديد من الأدباء والشعراء.
إن أبا إسماعيل بن القاسم القالي لم يكن موضع تكريم الدولة الرسمية الأندلسية فحسب، وإنما كان موضع الإجلال بين العلماء ،وكافة الناس، وكان ممثلا للثقافة المشرقية، التي كانوا يتطلعون إليها، ويتابعون كل جديد فيها. ومدحه كثير من الشعراء في مقدمتهم الرمادي الشاعر الأندلسي:
روض تعاهده السحاب كأنه
متعاهد من عهد إسماعيل
قسه إلى الإعراب تعلم أنه
أولى من الإعراب بالتفضيل.
عاصر أوج ازدهار الأندلس ورغم الثلاتين،التي عاشها هناك، فإنه لما حضرته الوفاة أحس بالغربة، وأوصى بأن يكتب على قبره هذان البيتان.
صلوا لحد قبري بالطريق وودعوا
فليس لمن وارى الثراب حبيب.
ولا تدفنوني بالعراء فربما بكى
إن رأى قبر الغريب غريب.
فأبو علي يريد من خلاله أن يكرس صفة العمق، والإفاضة،والوفرة العلمية لعلماء المشرق، الذين يمثلهم في الأندلس.
ومهما كان الأمر فكتاب الأمالي لأبي علي القالي يعتبر سفارة ثقافية فريدة، نفيسة فرضها على العقل الأندلسي.
إبن شهيد الأندلسي: أحمد بن عبد الملك 382\426هجرية القرطبي شاعر ووزير، عالم ومؤرخ وندماء ملوكها قبل عصر المرابطين 453هجرية بقليل، كان وزير المستظهر في 1023م مع ابن حزم، إلا أن هذا الحكم سقط 47يوم من توليه الخلافة،ففر إلى مالقة مع يحيي الأول بن علي .
أثر عصر الفتنة في ابن شهيد فاضطربت أحواله المادية، فقد الجاه العريق بتشتت العامريين، إنتقل بين دويلات، أصبح يمدح الأعيان، سجن ولعل أهم أعماله رسالته القصصية:التوابع والزوابع، وهي رسالة خاطب فيها أبا بكر بن حزم، وقد كان من القلة الذين استثناهم المستشرق كرسيه كومس حين وصف الشعر الأندلسي الغنائي بالفقر العقلي والفكري .قال عنه أبو حيان الأندلسي " كان يبلغ المعنى فلا يطيل سفر الكلام "وقد أطنب إبن بسام في الثناء على نظمه و نثره وأدبه. ووصف الثعالبي نثره في غاية الملاحة.
ورغم أن الشاعر والأديب الجليل إبن شهيد إنشغل بالمؤامرات والفتن التي كانت تدور رحاها ومنها التوجس والخيفة، فقد أنكره الخاصة وقد قال بلحمة لسانه:أما أبابكر فقد كان حامل علي ولا نعرف المقصود فيهم .
إن رسالة التوابع والزوابع صورة وشهادة على عصر سادت فيه الضبابية وتلوث فيه الأدب بالسياسبة ولعل الشاعر أبا البقاء الرندي لمؤرخ بليغ لما آلت الأوضاع بعد أن لاكته ألسنة الخاصة والعامة بحكمة ورزانة يقول:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان
حتى المحارب ترثي وهي جامدة
حتى المنابر تبكي وهي عيدان.
رغم المآسي وانكسار الروح كون الشاعر الأندلسي ،لم يألف ويأنس هذا التعطش في العلاقات العامة التي تميزت فيما قبل بغنى المجتمع اقتصاديا، واجتماعيا وجغرافيا، فالتحول صيرورة إنسانية ساهمت في إثراء الخزينة الأديبة بقامات وهامات، كبيرة من الشعراء الذين وإن قل المال وضاق الحال فلم يبخلوا علينا بتصوير البيئة الأندلسية، التي كانت بحق، جزء لا يتجزأ من سفارة العرب في الخارج.
