

.. اِستفزّني طيفُ ذاك الخِلّ الأَهْيَف و هو في رَوْعي و غَوْري يُسائلني وَجَلاً :
"ما مَصير مَرويّات قلبك ؟ و أنتَ تتدلّى رُوَيدًا مِن سقف عُنفوانك إلى كهف فنائك ، و لا سيما أنّي حبّةُ الخَال في خَدّ كلِّ قصيدةٍ لديك ، فلا يُخطئُها أريب ؛ و شامةٌ في مذكّراتك لا يتيهُ عنها لبيب .."
فكان ذلك الحَسْمُ الّذي ترجمتُ عنه بتلك الشّظايا من تَشرْذُم الكلام و فوضى البيان النّابعين من تَبرُّم النّفس و قلقها و توتّرها ...
و للأبد ، اِختفت مرويّات القلب في :


تساءلتُ :
إلى متى يظَلّ قلمي مثل هطول المطر
سيْلاً يَهْمي من الكلمات و ينهمرْ ؟!

و لِمن أُنضِّد القافيات ؟
ومُهْرتي تُؤرّقها الاعترافات والحرُوفُ الواشيات
فينوبُها الخوف و الضّجرْ

قلت : لِأحسِمَ أمري قبل المنايا .
و انتفضتُ في قلب الهزيع ماردا يُبعثر الأوراق
و يَفتِك في الصّفحات فَتْكة المُنتصِرْ

فاُمتدَّ سلطاني للمذكّرات أُراودُها ،
مُثخنة بالمستحيلات عناوينها
أَعيث فيها و يشوبها منِّي ضرر ، و أيُّ ضَررْ ؟!

زَحفتْ جائحةً أنْوائي تَقتحمُ مَفاوِز انطوائي
و لم تتهيّب لِنبْضي دُنُوَّ الخطر

مَحوتُ أشياء و أخفيت أسماء
و وَارَيْتُ تواريخ و نَسَفْتُ أحداثا و حَكايا
و اُكتسحتُ لَواعجَ و عِبرْ

هذا الماضي مَعِينٌ و خِضَمّ سَبرْتُه بين السُّطور
فلْيذهبْ مَداه في العدمْ
و لا يُجدي مَنْحُه أنفاسا أُخَرْ

فقمتُ للمِلفّات الصّاخبة و الصُّحُف الشاحبة
أَطمِسُ وَهَجَ الحروف و جرأةَ الكلمات الهاربة
يا هَوْلَها حملاتُ التّجريفِ بين مِكرٍّ و مِفَرّْ

تُهتُ في إرث الكلام ،المُجَلَّى بعضه .. و الغَمَام ،
الدُّرُّ .. و العَصْفُ و الرُّكامْ ،
و حين اسْتحال الفرْزُ و عَسُرتْ بَيادر " الألغام "
سُلَّتْ "شَعرة عثمان" بغير حَذَرْ

قطعتُ كلَّ شرايين العودة للوراء
و فَصمتُ آخر شّعاعٍ للذِّكرى و الأحلام
و فوق نَخْب المآقي و ما فيها من سخاء
أقمتُ للخاتمة قُدّاسها الأخير
فعبثتُ بِنرجسيّة الأطياف فوق ألْبُومِ الصُّوَرْ

أَبْكتني و الله ملامحُ -الخَيزرانة -
في الحاويات و سِلال المُهمَلات
كيف تناثرتْ صُوَرُها أمامي نُتَفا و شذَرْ

مِئُون الصّفحات مَزّقت عَشراتُ الكَشاكل أَتْلفت
و ذبحتُ كلَّ لفظٍ شجيّ ضَمّه قلبي و البَصرْ

حتّى القوافي انتهكتُ حُرْمتَها
و اغتصبتُ عُذْريّةَ البَوْحِ فيها
و اغْتَلْتُ قداسة اليراع و لم أَعتذرْ

وَيْحَها قصائدي ... وْيْحَ أَشعاري
لم تَسلمْ من مَكري و نَزَقي الأَشِرْ

و السِّجلاّتُ حتّى ... و الخطاباتُ الورديّة
و رُزنامةُ المواعيد القُزَحيّة
و الأجندات الأبجديّة ، الفائحة طُفوليّة
لم تنجُ هي الأخرى من التّصفية العرقيّة
فما لها من الإبادة وَزَرْ

ليس للمدوَّنات شفاعة ، و لا لِكُنَّشاتي طَلبتُها
أَجهزتُ عليها ، و ما تريَّثتُ لِأُجيل فيها النَّظر

خِفتُ أن يَرِقَّ لها فؤادي و عليها ينفطرْ
فأَحْنو عليها لِتَحْيَا فتنمو فيّ أكثر و تَستمرْ

هكذا دَيْدَني مع طقوسُ الانتهاء
أبتكرُ لها أنساقا من القرابين
و كلَّ المُستثنَيات في الخراب ، و الخَوَرْ

فَتَكْتُ بالجميع ،
شَيطان الشّعر و الكلام و الوحي و الإلهام
و في مَهاوي الجُحود وَأَدْتُ مَلاحِمَ السُّهْدِ
و شعائرَ التّشاكي و مناجاةَ السَّهَرْ

ذهبتُ في الجُنون شَوْطًا
و في المُجون أشواطٌ بين جوانحي تَعْتَوِرْ

لستُ أدري من أين تَسوّلتْ نفسي تلك القَساوة
فاقتلعتُ جُذورَ الأمس و صادرتُ لُغة الهمس
و قَطَّعتُ المُسَوَّدات و كرّاساتي أزهارَ العُمُرْ

كلُّ المشاعر الدّفينة في مُدوّناتي جَرَحْتُها
و في غُضون اللّيل العَقيم صَلبْتُها
و كلُّ قِرطاسٍ اعْترضني اجترحتُ فيه إثما نُكِرْ

وأَخصيتُ الشّجن العفيف ولَحْنَ الوجدِ الشّفيف
يا إلهي كيف قُدَّ قلبي اللّيلة مِن حَجَرْ ؟!

حُطاما ، جَثَتْ قصائدي السَّنِيّة
و فوق مكتبي الحميم وَدَّعْتُها أنقاضَ هُوِيّة ،
و الذّاتُ ثَكْلى رَمِيم تَئِزُّ بين الصّفحات الأَبِيَّة
فيُذكي وجعَها خشوعُ السَّحر

تُرى هل تَراني انتقمتُ لِهِجْعاتي المُسَهَّدَة ؟
هل تراني أَنصفتُ أجفانا قَرَّحها هَجْرُ الوَسَن
و ضَرّجَها نورُ القمرْ ؟

بالله ماذا بقيَتْ تفعل هذه الدّفاتر ؟
وما جدوى أقلام تَتلجلجُ العبارة فيها و تَحتضرْ

و المحابرُ ، ما عادت تَلزمني ،جفَّ مِدادها
و اعترافاتُ السُّطور ، هي الأخرى مَحوتُها
و البطاقات أتلفتُها .. و الدّعوات كلّها في الأثَر

جميعُها الأَيْمان نَكثتُها و ألْغيتُ عقود الوفاء
و نصَّبتُ على مَقاصِل اليأس كل آمال الصِّبا
هنا فقط تسابيحُ الرّثاء و ابتهالات الفناء
فلْستَصفعِ الشّمسُ ضَحْوَتَها بِنَعْيِ الخبر

لن يَعْنيَني الآن شيء أَنْهيت مِحن العَلَق والعَرَق
و فَطمتُ شهوةَ النّظم و بَحَّ البُلبل فِيَّ
و نَشَزَ صوتُ الوَتر . فماذا أنتظِرْ ؟

ها هي أقبيةُ التّجاليد و الحَلَك
و ثُغورُ الأخاديد تحت أضواء الفَلَك
تَتحفّزُ لِحَمْأة الطّين و سِفْر العمل و زادِ السَّفَرْ

فرّقَتْنا الأماني ؟ أَجَل ، و شرّدَتْنا آفاقٌ لِأجَل .
شرّقَتنا ؟ نَعم . غرَّبتنا اختلافاتٌ ؟ ألف نَعم .
قلت : "مَاعْليش"
في بُحور الخليل نرتقي،ثم نلتقي على وَعْدٍ أَغَرّْ

لكن ، يا خيبةَ الأراجي !
عَجولا زَحَف الدّهر ! و سِراعا نَزَف العُمْر !
و في تساوُق الصّبر و الزّمن ، باغَتَنا الكِبَرْ !

فلا نحن التأمنا ، و لا نحن اعتليْنا ..
ها نحن في السَّفح نُوشك أن نجتمع كي نَنْدثر

بأوجاعنا ، و دموع مآقينا .
بحَصْد الرّدى فينا ، و كلِّ مآسينا .
و فوق رُفاتنا تُرمِّم وُجودها الدُّنيا ، كي تستمرّ .

فماذا يبقى مِنّا إذًا ؟ سِوى غُبار المعنى
و حشرجاتُ الرّوح يَفصلها القَدر .

فلمن تنمو وُرَيْقاتي ؟ و لِمن تبقى مُذكّراتي ؟
و أنا رِمّة بين أطباق الثّرى
و قِحْفٌ تحت صَفيح الحَجَر

بالوَجع و شُهودِ الدّمع
مَزّقتُ اللّيلة ميراثَ عُمْري و هتكتُ عِرْض الألم
فيا فَزْعةَ العدم لكلِّ ما خَطّ القلم
و أين المفرّ بعد سِلوان الكلام ؟! وأين المَقر ؟!

وَا حَسْرتاه على القَريض و النَّظمِ و النّضيد
وَا فُؤاداه كأنّني لم أكتب شيئا يُتلى فيُدّخر

آه كم مُضْنية حضارة التّعبير و التّحبير
و أضنى منها حَنْظل الاستقالة
و المسافة نحو النّسيان أدهى و أمرّ

و كم عَزَّ سُلُوُّ النّفْس
بعد أن ضِيعَ إشهاد المُقل و رسم القلم
و كم ضَنِينةٌ ولائمُ السّلْوى
في هذا الفراغ يا دنيا الغَرَرْ

اِنتهى كلّ الكلام و لم تبق في رَحْلِي
سوى كُلَيْمة تخترق وجه الشّمس
فلا هي في صدري تَفنى فتَرحم كياني
و لا هي على الشّفاه تنتحرْ ...

( ؟ )
هل سمعتَها أيُّها الأهيفُ خِلاًّ ؟
وَشَمْتُها في خَلدي و فَزِعتُ بها إلى السّماء
و حسْبي سَميعُها مَن سَوّاني مِن رملٍ و مَدَرْ

و إنّي بَرِئْتُ بعدها من الكتابة و الحِبر و القلم
فاهْنأ قريرا ليس بجرابي الذي على بالك خَطر

فلا أحد بعد الرّحيل يَدينُني بمقال
أو قصيدة كتبتُها عنك أو خبرْ

مَحاميدُك رَبّي ، خِفافًا نَعْتلي
فاطمئنَّ يا ذا الخُلَل
على الماضي وَثَبنا وَثْبة جؤذُرِ
و إني سلختُ الذّاكرة و مزّقتُ كلّ شيء
و لم أدَعْ لِمرويّات القلب مِخلبا يؤذيك
أو هباءةً لِأَثَرْ

بقلم الأستاذ
الشّاذلي دمّق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق