صلاحُ الأمة بالأُم
خلق الله الإنسان من ذكرٍ وانثى وحبا لكل جنسٍ ميزاتٍ خاصةٍ به ، فميَّزَ الرجل بصفاتٍ يحتاجها في تسيير أعماله في الحياة من قوة وتحمّل لمتاعب الحياة ، وميّزَ المرأة بالرِقة ولن ننسى أنها خُلقت من أضعف ضلعٍ في جسد آدم وأقرب ضلع يُحيط بالقلب لكي يبقى حانياً عليها وحامياً لها ، وكما يقع على الرجل تبعات شظف الحياة وتأمين متطلبات الحياة الكريمة لأسرته ، ولكن يقع على المرأة عِبءٌ أكبر وأعظم وأسمى وهو تربية الأجيال ، وهذا مُتمثِّلٌ في الأم ، وهذا موضوع مقالي ، فمهما كتبنا لن نوفي الأم حقها ، وأنا ضد تسمية يومٍ واحدٍ للأم ، فالأم لها كل الأيام والأشهر والسنين وليس مرتبطةٌ بيوم واحد لنتذكرها ، فكيف لنا أن ننسى إنها حملت إبنها تسعة أشهرٍ في رحمها وكيف عانت آلام الولادة ليأتي إلى هذا الحياة وأن يرى النور وقد قال تعالى في سورة لُقمان - الآية ١٤ ( حملتهُ أُمهُ وهناً على وهن وفصالهُ في عامين ) أي جُهدٍ على جُهد وضعفٍ على ضعف أثناء حملها له وزيادة وزنه كلما كبُر في بطنها إلى أن ولدته ، ثم فترة الرضاعة إلى حين فطامه والتي تمكثُ عادة مُدةَ عامين ، وكيف ننسى مُكابدتها وتعبها في تربيته
حتى تكون له مكانته في هذه الحياة ، فالأم هي صانعة الأمم ومصنع الرجال والنساء على حدٍّ سواء فهي التي تؤسس طفلها منذ ولادته وبدءِ حياته حتى يصل إلى ما يُريدُه دون أن تنتظر أيُّ مقابل لذلك ،وعلى هذا يجب على الأبناء بِرَّها وطاعتها ويكسبُ رضاها لأن رِضاها بعد رضا الله . وقد قال تعالى في سورة الأحقاف – الآية 15 : ( ووصَّينا الإنسان بوالديهِ إحساناً ، حملتهُ كُرْهاُ ووضعته كُرْهاً ، وحملهُ وفصالهُ ثلاثون شهراً حتى إذا بلغ أشُدَّه وبلغَ أربعين سنةً ، قال ربِّ أوزعني أنْ أشكُرَ نِعمتكَ التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاهُ وأصلح لي في ذُريتي إني تُبتُ إليكَ وإني من المُسلمين )
ولكن أتساءل وقد لا يروق كلامي لبعض أُمهات حاضرنا ، هل أُمهات الوقت الحاضر كأُمهات الزمن الماضي ؟ . فالأم في الزمن الماضي هي بحق الأُم المثالية والحقيقية بكُلِّ ما تحملهُ مُسمى كلمة ( أُم ) من معانٍ عظيمة ونبيلة فهي التي منذُ حملت بإبنها وإلى أن يُصبحُ شاباً يافعاً وهي تتحمَّل كُلَّ عناء بدون أن تتذمر أو تشكو ، وتُربي أبناءها أجمل وأخلص تربية حتى أخرجن للدُنيا نساءً ورجالاً خدموا الدين والوطن خدماتٍ يُشارُ لها بالبنان ، وكُلُّ ذلك لأنها كانت تُربي أبناءها على الشدة وكيفية مُجابهة ظروف الحياة ، وكان التركيز على البنات مُنذ نعومة أظفارهن بتعليمهن شؤون الحياة في سنٍّ مبكرة ، وذلك من أجل أن تعرفَ كيف تواجه الحياة بقوة عندما تكبُر ولِتُربي أجيال نافعة للمجتمع ، ولم تكن أمهات الزمن الماضي بحاجة إلى خادمات ليقمن بأعمال البيت بدلاً منهن ، ولا يوجد وسائل التواصل الإجتماعي من فيسبوك وواتساب وغيرها من وسائل لتُلهيها عن القيام بواجبها المقدس نحو زوجها وأبنائها وبيتها وهذه الفطرة التي فطرَ المرأة عليها وهي أن تكون سيدة بيتها وملكته ،و لكن كلامي ليس معناه أنني ضد عمل المرأة ولكن عليها أن توازن بين واجبات عملها وواجبات أسرتها . ولهذا فإننا نرى أُمهات الزمن الماضي صابرات مُحتسبات وهُنَّ السند لأزواجهن وحافظاتٍ لبيوتهن وفخورات بنتاجهن العظيم بأن خرَّجن جيلاً خلاَّقاً يبني أمته باقتدار ،لأنهُنَّ يفضلن أبناءهن على أنفسهن ويعملن كُلَّ شيءٍ في البيت بسعادة بدون أدنى شكوى ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا أُخبركم بخير ما يكنُز المرء ؟ المرأة الصالحة إذا نظر إليها أسرته وإذا غاب عنها حفظته ، وإذا أمرها أطاعته ) فأين أُمهات هذا العصر من أُمهات الزمن الماضي ؟!! فنرى أن الطفل - ولا أُريد التعميم - أنه مُنذُ ساعات ولادته الأولى يفتح عينيه ليجد خادمة خاصة به ويكبُر ويقضي مُعظم وقته معها والأم منهمكة في عملها ، وإن كانت مُتفرغة تقضيه على وسائل التواصل بجميع أنواعها ، فأين هذه الأمومة وأين الحنان الذي يفتقده الطفل بغياب أمه عنه .
إن الأم هي أهم إنسان في الوجود بل هي الفائدة الحقيقية للعالم ، لأنها هي نصف المجتمع بل المُجتمع كُله ، لأنها هي مُربية الأجيال وبها يبدأ تكوين شخصية الطفل وتشكيل سُلوكياته ، فصلاح الأبناء بصلاح الأُم وبصلاحها يكون صلاح الأمة جمعاء ، وعلى الأبناء مُقابل ذلك واجب الطاعة والإحسان لوالديهما على ما قدموه لهما وأفنوا أعمارهما من أجلهم ، قال تعالى في سورة الإسراء : الآيات 23-24 ( وقضى ربُّكَ ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً ، إما يبلُغن عندك الكِبرَ أحدهما أو كلاهما ، فلا تقُل لهما أُفٍّ ولا تنهرهما ، وقًل لهما قولاً كريما واخفض لهما جناح الذُلِّ من الرحمة ، وقُل ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيرا )
رسالتي إلى أُمهات هذا الزمن الحاضر الذي أصبح فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر ، علِّموا أبناءكم دينهم والتمسُك بعقيدتهم ، وربوهم على مكارم الأخلاق في هذا الزمن الذي يُصبحُ فيه الحليم حيراناً قال رسول الله صلى الله عليه في حديثٍ رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للعرب من شر قد اقترب، فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل، المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر، أو قال على الشوك. صححه الأرناؤوط ) .
فأبناؤكن أمانةٌ في أعناقكُنْ ، فصلاح الأُمة بصلاح أبنائها ؛ وصلاح الأبناء بصلاحِ الأُمهات ، فكُنَّ على قدرِ التكريم الذي كرَّمكُنَّ الله به ووضع الجنة تحت أقدامكُنْ ، وقد جاء في حديثٌ صحيح عن معاوية بن جاهمة إذ قال : ( أنه جاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله أردتُ أن أغزو وجئتُ أستشيرك ؟ ، فقال هل لك أُم ؟ قال : نعم : قال "فالزمها فإن الجنَّةَ تحت رجليها" . فعليكُنَّ أن تكُنَّ على قدر المسؤولية التي كرَّمكُنَّ الله بها لتربية الأجيال الصالحة التي تقود الأُمة إلى الظفر وعماد التربية ديننا الحنيف والأخلاق الحميدة ، وكما قال الشاعر حافظ إبراهيم في رائعته الشعرية :
الأُمُ مدرسةٌ إذا أعددتها أعددتَ شعباً طيّبَ الأعراقِ
الأُمُ روضٌ إنْ تعهَّدهُ الحيا بالريِّ أورقَ ايُّما إيراقِ
الأُمُ أُستاذُ الأساتذةِ الأُلى شغلت مآثرهم مدى الآفاقِ
صخر محمد حسين العزة
عمان – الأردن
21 / 3 / 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق