أنا الذي هو...؟
لا، لم أخرج فارغًا
كما ترين يا سيدتي،
ولا يغرنك مظهري،
إذا مخازي الماضي
لا تبدو على تجاعيدي.
فقد تسللت بعيدًا جدًّا
ودفنتها في قبور الخيبات.
أنا أجريت جراحة بالوجه،
أزلت منه ندبات الحظ،
وشدّدت تسلسل فقرات
عنقي بعدما سقط بغتةً،
فتكسّر حُتاتًا وفتاتًا،
حين هبط منكبًّا بكل أمواتي
من فوق مشانق الجميلات.
وعن العذابات أُحدّثك،
ولا حرج في كل ما فات،
فقد كانت بي نكسات
أوصلتني إلى نكسات،
وكيف الغوثُ لمن يقع
تحت طائلة الاتهامات؟
فأنا...؟ و أنا هو الذي ترين،
أنا الهمجي، الغجري، الواهم
النرجسي، والغبي اللاحسي
و السادي، المادي المسيء،
الرديء، القميء، اللامضيء،
و انا كذلك البجح و الوقح،
الرذيل، البخيل، المريض
النفسي، البليد، البَذِيء،
و أنا الإباحي، الصعلوك،
والمملوك، الملحد، المبدَّد،
المتعدد الطلاق والزيجات.
وقد أيقنتُ أن اللوم إذا
توجّب، فلا ألوم إلا نفسي،
وتعلّمت الكثير والكثير
من الخيبات بعد الخيبات،
ولن أُخدع مرة أخرى
في وجه البراءة الذي
ترتدينه، يا خضراءَ الدِّمَن،
حينما تتقمّصين شخصية
انثى ما عادت موجودة
في زمانٍ اغتال بالتقارض
بناتِ الأصل، اللاتي كنّ
يتزيَّنَّ بالأخلاق وطيب
العادات، وللأسف، أُحِلَّت
مكانهنّ أغربُ الكائنات،
فما هنّ إلا بناتُ آوى، ذئبات،
كأنثوياتٍ يرتدين زيّ مليكات.
والآن... كل تكويني
ما هو إلا...؟
حيطةٌ وحذر، فكلما
اقتربتُ، ابتعدتُ،
وعن القادمات أجدني
أتلاشى، وأختفي، وأحتمي
بالتخفي في غبار الماضيات.
- حمدي عبد العليم
القراءة النقدية للنص..
القصيدة التي بين أيدينا للشاعر حمدي عبد العليم تنتمي إلى نمط من الشعر المعاصر يعبّر فيه الشاعر عن تجربة شخصية وجودية قاسية، تتقاطع فيها الذات المجروحة، الخيبة العاطفية، والتشظي الداخلي، مع رؤية سوداوية للمجتمع والنساء تحديدًا. وهي نص نثري مليء بالمواجهات الداخلية والاعترافات الصادمة، مما يمنحه خصوصية في الطرح والبناء. إليك قراءة نقدية تفصيلية للقصيدة على المستويات التالية:
---
🔹 أولًا: البنية الموضوعية
1. الاعتراف والتقنّع
يبدأ الشاعر باعترافٍ صريح:
> "أنا الذي هو...؟
لا، لم أخرج فارغًا كما ترين يا سيدتي،"
هذه الجملة المفتوحة تُشبه مدخل تحقيقٍ ذاتي. هو لا يصرّح بهويته، لكنه يُقر بأنه ليس بالشخص الفارغ أو العادي، وأن ما يُخفيه أكثر بكثير من ظاهره. يوحي الافتتاح بوجود قناع اجتماعي يخفي أعطابًا شخصية وتجارب مؤلمة.
---
2. الجراح النفسية والتجارب المدمّرة
يشرح الشاعر ما مرّ به من "عمليات نفسية"، شبه حرفية:
> "أجريت جراحة بالوجه،
أزلت منه ندبات الحظ..."
يوحي هذا بعملية إعادة تشكيل الذات بعد خيبات متكررة، مما يضع القارئ أمام شخصية هشّة لكنها تحاول أن تتماسك بالمظهر أو التماسك القسري.
---
3. الكشف الكامل عن العيوب والذات المشوّهة
في جزء طويل ومفاجئ، يصف الشاعر نفسه بسيلٍ من الصفات السلبية:
> "أنا الهمجي، الغجري،
النرجسي، والغبي اللاحسي
...، البذِيء، الإباحي، الصعلوك..."
يبدو هذا وكأنه تعرية عنيفة للذات، فيها جلد للذات لكنه في ذات الوقت يُحوّل المأساة إلى نوع من الاعتزاز السوداوي، بل تحدٍّ ضمني للمجتمع، وللأنثى التي يُخاطبها تحديدًا.
---
4. النقد اللاذع للنساء والمجتمع الأنثوي
بعد استعراض عيوبه، يتحوّل للهجوم على النساء:
> "يا خضراء الدمن،
حينما تتقمّصين شخصية أنثى ما عادت موجودة"
المرجعية هنا دينية وأخلاقية، و"خضراء الدمن" إشارة إلى الجمال الخارجي المُضلِّل مع فساد داخلي (مأخوذة من حديث نبوي). يعتبر الشاعر أن الأخلاق زالت، وأن الأنوثة الأصيلة استُبدلت بمظاهر كاذبة.
هذا يُظهر مرارة ذاتية، لكنها تتحوّل إلى خطاب هجائي تجاه المرأة والمجتمع المتغيّر، وفيه نَفَس محافظ تقليدي ينقد الحداثة النسوية أو السلوكيات "المتحررة".
---
5. الانكفاء والانسحاب
يختتم بقوله:
> "كل تكويني ما هو إلا...؟
حيطةٌ وحذر، فكلما اقتربتُ، ابتعدتُ..."
وهنا يدخل في مرحلة ما بعد الصدمة، مرحلة الانسحاب الكامل من العلاقات، والعزلة الاختيارية كحماية للنفس. هذه نهاية مأساوية لدائرة من التجربة المرة.
---
🔹 ثانيًا: الأسلوب والبنية الجمالية
1. اللغة
لغة مباشرة، غير متكلفة، لكنها تستمد من معجم ديني وأخلاقي وتراثي ("خضراء الدمن"، "بنات آوى"، "مشانق الجميلات").
استُخدمت تراكيب قوية وصادمة: “الجميلات”، “مشانق”، “المملوك”، “الإباحي”، إلخ، لخلق حالة من الصدام والإدهاش.
2. الإيقاع والموسيقى الداخلية
رغم أن النص نثري، إلا أن فيه تنغيمًا داخليًا عبر التوازي، التكرار، وتراكم الصفات.
أمثلة: "الرديء، القميء، اللامضيء" – هذا التناص الصوتي يعوّض غياب الوزن الكلاسيكي.
3. التصوير المجازي
تصوير الماضي على أنه مشانق، والمحبوبات كأنهن ذئبات، والخيبات كـ"قبور".
المجاز هنا ليس جمالياً بقدر ما هو محمول بالتجربة النفسية والانفعالية.
---
🔹 ثالثًا: البعد النفسي
هذا النص يمكن قراءته بوصفه مونولوجًا داخليًا لرجل محطم، واجه انتكاسات شخصية وعاطفية، وأعاد إنتاج هذه التجارب في قالب من الاعتراف، والتمرد، والاتهام.
هناك نوع من المازوشية في الاعتراف بكمٍّ هائل من العيوب.
ثم تحويل المعاناة إلى نبرة هجومية تجاه الآخر – خصوصًا المرأة.
ويتّضح أنه يعيش في صراع بين صورة الماضي "الأصيل" وصورة الحاضر "المزيّف".
---
🔹 رابعًا: ملاحظات نقدية موضوعية
1. قوة النص في جرأته، في تعرية الذات وتوصيف التجربة دون مداراة.
2. ضعفه أحيانًا في السقوط في التعميم، خصوصًا حين ينتقل من الذات إلى الحكم على النساء والمجتمع.
3. بعض المقاطع فيها طغيان للصفات السلبية لدرجة الإرهاق اللغوي،
4. النص يميل إلى الخطابية في مقاطعه الأخيرة، ما قد يضعفه شعريًا أمام مقاطع أولى أكثر صدقًا وجمالاً.
---
🔚 خاتمة
نص "أنا الذي هو؟" هو مرآة مكسورة للذات الذكورية في زمن الاغتراب الاجتماعي والعاطفي. إنه صراخ داخلي مكتوم في ثوب التحدي، ومزيج بين التوبة والتمرّد، وبين الاعتراف بالهزيمة ومحاولة النجاة منها. نص لا يطلب العطف، ولا يعرض بطولة، لكنه يقول: أنا جئت من جحيمٍ ما، فافهموني او اتركوني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق